لا ينكر أحد أن التوقعات الاقتصادية على المستوى العالمي تتسم بعدم اليقين والتوتر أكثر من أي وقت مضى. ودول الاتحاد الأوروبي وتحديدا منطقة العملة الأوروبية الموحدة “اليورو” لا تعد استثناء من هذا الوضع.
فأوروبا واحدة من أكثر القارات التي منيت بتحديات اقتصادية غير مسبوقة نتيجة جائحة فيروس كورونا، والتوقعات الخاصة بالتصنيفات الائتمانية لدولها محبطة للغاية، إلى الحد الذي جعل بعض الخبراء يتوقعون أن تشهد دول الاتحاد خاصة منطقة اليورو أزمة خطيرة في مجال الدين العام.
تجلت تلك المخاوف في الاشتباك الذي حدث بين قادة الاتحاد الأوروبي خلال قمتهم عبر الفيديو أخيرا، إذ أعلنت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أن أوروبا “تنزلق إلى أعمق ركود اقتصادي منذ الحرب العالمية الثانية”، خاصة بعد أن بات من المؤكد أن بعض اقتصادات الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو ستتقلص 10 في المائة هذا العام نتيجة جائحة كورونا.
ومن ثم باتت قضية الديون والاقتراض لسداد الديون أحد أبرز الأولويات على جدول أعمال قادة الاتحاد ومنطقة اليورو.
داخل الاتحاد تعد بريطانيا ثاني أكبر اقتصادات أوروبا، وقد وصلت مديونيتها إلى مستويات تقرع أجراس الخطر، حيث ارتفع إجمالي الدين الحكومي إلى 1.95 تريليون جنيه استرليني، متجاوزا بذلك حجم الاقتصاد الوطني لأول مرة منذ أكثر من 50 عاما.
وخلال أيار (مايو) الماضي اقترضت المملكة المتحدة 55.2 مليار جنيه استرليني، أي ما يزيد تسعة أضعاف عما اقترضته خلال ذات الشهر من العام الماضي.
وإذ كانت المملكة المتحدة نموذجا لمأساة الديون في الاتحاد الأوروبي ككل، فإن توقعات صندوق النقد الدولي تشير إلى ارتفاع إجمالي الدين العام في منطقة اليورو بنحو 800 مليار يورو في الفترة من 2019 – 2020، ليبقى عند 97.4 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أعلى بكثير من المستويات التي وصلت إليها ديون منطقة اليورو خلال أزمة الديون السيادية عام 2008.
تقول لـ«الاقتصادية» الدكتورة جودي وتسون الاستشارية في المفوضية الأوروبية، “سياسات الإغلاق لمواجهة فيروس كورونا، فاقمت إلى حد كبير من المصاعب الاقتصادية التي تواجهها دول الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو على حد سواء. الإغلاق أدى إلى انخفاض الدخل الضريبي والتأمينات الوطنية وضريبة القيمة المضافة وترافق ذلك مع زيادة الإنفاق الحكومي على تدابير الدعم العام”.
وبالنسبة لمنطقة اليورو تحديدا، فإنها تشير إلى أنه بعد اليونان تتوقع أن تتحمل إيطاليا أعلى عبء ديون هذا العام بين دول اليورو، وأنها ستصل إلى 155 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، كما أن فرنسا وإسبانيا والبرتغال سيكون لديها أكوام من الديون تتجاوز 100 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي.
لا شك أن جائحة كورونا دفعت الحكومات إلى إنفاق تريليونات من الدولارات من الحوافز المالية للتخفيف من تأثير تفشي الوباء، حتى الدول ذات الميزانيات العمومية الأكثر استقرارا التي كانت قادرة على إدارة تكلفة خدمة مستويات عالية من الدين العام على المدى القصير، باتت الآن في مواجهة ديون متراكمة، خاصة أن الناتج المحلي الإجمالي العالمي لن يعود إلى مستويات ما قبل الجائحة حتى عام 2022.
لكن البعض يعتقد أن قضية الديون الأوروبية أكثر تعقيدا من ربطها فقط بجائحة كورونا.
مالتوس ريدجريف الاستشاري في بنك إنجلترا يرى أن المعضلة الأوروبية لا تتعلق فقط بحجم الدين بل الأكثر تعقيدا من وجهة نظره النهج الذي أوصل أوروبا إلى هذا الوضع.
ويؤكد لـ«الاقتصادية» أنه بعد تسعة أعوام من أزمة الديون السيادية التي هزت منطقة اليورو، تتكرر التجربة مرة أخرى، وذات الأسباب التي فجرت الأزمة الأولى تقف خلف الأزمة الراهنة تقريبا، وما جائحة كورونا إلا أشبه بالإبرة التي فجرت الخلل الجوهري داخل منطقة اليورو، وإلى حد ما داخل الاتحاد الأوروبي.
ويضيف، “دول جنوب أوروبا ما زالت تتعافى من أعوام التقشف، ولا تزال مستويات الدين العام مرتفعة لديها، والعجز المالي مستمرا، كما أن شيخوخة السكان تزحف على بعض تلك الدول، هذا الوضع يجعل مجموعة من دول الشمال تحديدا هولندا والسويد والدنمارك والنمسا تتساءل هل ستواصل دول المنطقة اقتراض الأموال لمواصلة الإنفاق الاستهلاكي أم للاستثمار؟ ولهذا تطلب جدول أعمال محدد، يتضمن إيضاحا تفصيليا بقيمة الاقتراض المالي وقنوات الإنفاق والربحية المحققة منها، بينما دول الجنوب على العكس تماما تقول امنحونا المال أولا ثم كل شيء سيكون على ما يرام”.
ويعد مالتوس ريدجريف أن نهج دول مثل إيطاليا واليونان وإسبانيا والبرتغال وقبرص وإلى حد ما فرنسا هو الذي فجر أزمة الديون في دول الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو وليس أزمة كورونا فقط.
يعد بعض الخبراء المصرفيين أن خروج أوروبا من أزمة الدين أمر صعب المنال، لكن أيضا انفجار الفقاعة بالكامل أمر مستحيل الحدوث.
فجزء رئيس من أزمة الدين الأوروبي يكمن في ضعف الإنتاجية الأوروبية، والإفراط في المعروض من رأس المال على المستوى العالمي، نتيجة السيولة المتوافرة بسبب انخفاض أسعار الفائدة، كما أن تراكم الطاقة الزائدة في صناعات أوروبية رئيسة مثل صناعة السيارات وصناعة الصلب والصناعات الكيماوية أدى إلى إضعاف التراكم الاستثماري في تلك الصناعات.
ويعتقد الخبير المصرفي أندروا لو أن أزمة الدين الأوروبي بعد جائحة كورونا ربما تتفاقم وتتسارع وتتجاوز أزمة الديون الأوروبية عام 2008، ويرجع ذلك إلى الهيكل الاقتصادي والنقدي الأوروبي، معربا عن مخاوفه من أن الأزمة ستكون أكثر عمقا وصعوبة وتهديدا للحياة النقدية لدول الاتحاد ومنطقة اليورو.
ويضيف “في الواقع لم تفلح أوروبا في الخروج تماما أو التعافي المطلق من أزمة الدين الأولى، وقبل أن تتعافى تماما ضربتها أزمة الديون الراهنة وهذا يعقد الوضع، ويرفع معدلات البطالة بين الشباب ويؤدي إلى ركود وانخفاض متوسط الأجور الحقيقية، ومن ثم زيادة عدم المساواة الاجتماعية”.
مع هذا يشير أندروا لو لـ«الاقتصادية» إلى أن الأزمة الأوروبية من الضخامة بحيث لن يسمح العالم لأوروبا بالانهيار، وأنها ستمنح مزيدا من الوقت لتصحيح التناقضات الأساسية والعيوب الراهنة في أنظمتها الإنتاجية، كما أنه بخلاف الأزمة الأولى ستكون البنوك المركزية هي المسؤولة عن التعامل مع الأزمة، وليس الأسواق المالية كما كان الوضع في السابق.
ربما لا ترى أوروبا حلا حقيقيا للتعامل مع أزمة ديونها غير مزيد من الاعتماد على البنك المركزي الأوروبي من خلال برنامجه الجديد لشراء أوراق مالية تبلغ قيمتها 1.35 تريليون يورو.
سيوجه من هذا المبلغ 940 مليار يورو إلى الأوراق المالية الحكومية، لتمويل العجز الكلي في منطقة اليورو ليصل إلى ما يراوح بين 8 – 9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في منطقة اليورو وربما يكون استناد أوروبا إلى المصرف الأوروبي المركزي للتعامل مع قضية ديونها المتراكمة، دليلا على وعي أكبر بحجم ديونها وتأثيرها فيها مستقبلا، لكن هذا لن يكفي فأوروبا في حاجة إلى إعادة النظر في مجموعة القيم العامة الموجهة لإنفاقها سواء تعلق الأمر بالإنفاق الاستهلاكي أو الإنفاق الحكومي، فأوروبا القرن الـ21 لديها من المصاعب والتحديات الاقتصادية ما يتطلب منها وقفة حقيقية مع الذات، تعيد فيها النظر لحقيقة قدرتها الاقتصادية، ودورها في الاقتصاد العالمي.
