قفزت أسعار النحاس والفضة والبلاتين إلى صدارة أداء السلع الأساسية، مع قيام الولايات المتحدة بجذب كميات متزايدة من هذه المعادن الحيوية، مما أحدث إعادة رسم شاملة لتدفقات التجارة العالمية وأثار مخاوف بشأن نقص الإمدادات في الأسواق الأخرى التي تعاني أساساً من أساسيات عرض وطلب ضيقة. وقد أدى إدراج هذه المعادن أو تعزيز وضعها ضمن قائمة المعادن الحيوية الأمريكية إلى خلق محركاً جديداً وقوياً لارتفاع الأسعار: احتمالية فرض رسوم جمركية وتدابير تجارية انتقائية في عام 2026.
وقد دفع هذا التطور المنتجين والمتعاملين إلى إعادة توجيه الشحنات نحو الولايات المتحدة، ما أدى إلى شح الإمدادات في بقية العالم وتعزيز الأداء الاستثنائي الظاهر في جداول الأداء الحديثة. وعلى النقيض، يفتقر الذهب إلى هذا المحرك السياسي المرتبط بالرسوم، ليبقى قوياً لكن أداؤه النسبي أدنى.
من توصيف بيروقراطي إلى عامل مؤثر في الأسواق
شهدت قائمة المعادن الحيوية الأمريكية توسعاً كبيراً مؤخراً، مع إضافة النحاس والفضة إلى جانب البلاتين ومجموعة معادن البلاتين التي كانت مدرجة مسبقاً. الأهمية هنا تتجاوز مجرد التصنيف؛ فدخول أي معدن ضمن هذه القائمة يربطه بمجموعة من الأدوات السياسية:
تحقيقات البند 232
التخزين الاستراتيجي
منح التراخيص السريعة
أهلية الحوافز الضريبية لعمليات المعالجة المحلية
والأهم، ارتفاع احتمال فرض رسوم أو حصص استيراد إذا رأت الحكومة الأمريكية أن الاعتماد على الواردات يمثل تهديداً للأمن القومي.
تدفقات التجارة العالمية تنقلب رأساً على عقب
التوقع المتزايد لفرض رسوم جمركية العام المقبل أدى، منذ عدة أشهر، إلى إعادة توجيه شبه مستمرة لشحنات هذه المعادن نحو الولايات المتحدة، ما أوجد اختلالاً واضحاً في الأسواق العالمية. هذا الوضع خلق فائضاً محلياً “عالِقاً” داخل الولايات المتحدة، بينما تتزايد حدة شح الإمدادات في الخارج. وهكذا أصبح “خيار الرسوم الجمركية” أحد أهم محركات التدفقات الفعلية للمعادن.
المصافي والمصنّعون والتجار ضاعفوا الشحنات إلى السوق الأمريكية سعياً لالتقاط علاوة السعر المحتملة في حال تطبيق الرسوم، وهو نمط مشابه لما حدث في دورات البند 232 مع الصلب والألمنيوم.
النتيجة مزدوجة:
ارتفاع المخزونات والعلاوات السعرية داخل الولايات المتحدة
زيادة دخول المعدن إلى مستودعات “كوميكس” والموانئ الأمريكية جعلت امتلاك المعدن مادياً داخل السوق الأمريكية بمثابة تحوّط منخفض الكلفة ضد صدمات السياسة التجارية المستقبلية.
شح الإمدادات في أوروبا وآسيا
تحويل الشحنات نحو أمريكا أدى إلى تقلص المعروض اللحظي، ما رفع العلاوات السعرية في الأسواق الخارجية وخلق حالة من “الكونتانغو المعكوس” في عدة معادن صناعية ونفيسة. وهكذا يتشكل هيكل سوق ثنائي المستويات: أسعار تتحكم فيها مخاطر السياسة الأمريكية مقابل أسعار لبقية العالم حيث الإمدادات ببساطة تُسحب بعيداً.
هذه الانقسامات المتنامية في هيكل السوق تنسجم بوضوح مع الارتفاع اللافت في أسعار النحاس والفضة والبلاتين، وهي المعادن الأكثر تفاعلاً مع مسار السياسات الأمريكية الراهن.
النحاس: العمود الفقري الاستراتيجي الجديد
كان إدراج النحاس على قائمة المعادن الحيوية متوقعاً منذ فترة، لكن تأثيره السوقي تسارع في الأشهر الأخيرة. فالنحاس عنصر أساسي في شبكات الكهرباء والمركبات الكهربائية والتقنيات الدفاعية، بينما تعتمد الولايات المتحدة عليه بشكل كبير من الواردات.
وبوجود تحقيقات البند 232 التي تشمل النحاس ومنتجاته، أصبح المتعاملون غير مستعدين لتحمّل مراكز قصيرة داخل السوق الأمريكية.
على مستوى الأسعار:
سجّل النحاس في بورصة لندن هذا الأسبوع أعلى مستوى له على الإطلاق متجاوزاً 11,300 دولار للطن، محققاً ارتفاعاً بنسبة 28% منذ بداية العام، مدفوعاً بشح الإمدادات خارج الولايات المتحدة، رغم استمرار مؤشرات تباطؤ الاقتصاد الصيني.
أما المخزونات العالمية الخاضعة لإشراف البورصات فقد بلغت أعلى مستوى في سبع سنوات (636 ألف طن)، لكن التوزيع الجغرافي للمخزونات يكشف الصورة الحقيقية:
60% من المخزون العالمي متركز الآن داخل المستودعات الأمريكية، بينما لا تتجاوز حصة الولايات المتحدة من الطلب العالمي 6% فقط.
الفضة: من معدن نقدي عالي الحساسية للذهب إلى عنصر تكنولوجي مرتبط بالسياسة التجارية
إدراج الفضة ضمن المعادن الحيوية كان تحولاً جذرياً. فالفضة كانت مدعومة أصلاً بعجز هيكلي ناتج عن توسع الطاقة الشمسية والإلكترونيات وضعف نمو الإنتاج المنجمي. لكن احتمال الرسوم الجمركية أطلق موجة ارتفاع استثنائية.
أصبحت الأعمدة القياسية في بورصة لندن تتجه نحو المشترين الأمريكيين الذين يسعون لتأمين المعدن مادياً قبل قرار 2026. وقد تضاعف سعر الفضة تقريباً هذا العام، مع تسارع حاد منذ آب/أغسطس، خاصة بعد تراجع المخزونات في بورصة شنغهاي إلى أدنى مستوى في عشر سنوات، واختراق السعر مستوى 54.50 دولاراً الذي فجّر موجة جديدة من الشراء الزخمي وتغطية المراكز المكشوفة.
الفضة لم تعد تُتداول كأداة نقدية أو كنسخة عالية الحساسية من الذهب، بل يعاد تسعيرها باعتبارها مادة تكنولوجية استراتيجية تحمل إمكانية علاوة سعرية أمريكية.
البلاتين: معدن حيوي يُعاد اكتشافه
رغم وجوده الطويل على القائمة، لم يحظَ البلاتين بالاهتمام الكافي حتى هذا العام. فالإمدادات تتركز في جنوب إفريقيا وروسيا، ودوره في تقنيات الهيدروجين يزداد أهمية، ما جعله قريباً من دوائر البند 232.
أداء البلاتين مذهل هذا العام، إذ ارتفع بنسبة 81% منذ أيار/مايو، حين دفعت أساسيات السوق الأقوى (تراجع الإمدادات مقابل طلب قوي) إلى اختراق الاتجاه الهابط الممتد منذ 2008. قفز البلاتين من 1,000 دولار للأونصة إلى 1,730 دولاراً، وهو أعلى مستوى في 12 عاماً.
كما انخفضت نسبة الذهب إلى البلاتين من 3.54 : 1 إلى 2.58 : 1، ما يعكس شح الإمدادات وتزايد تحويل المعدن نحو السوق الأمريكية لالتقاط “خيار السياسة التجارية”.
الذهب: قوي… لكن بلا محفّز سياسي
يظل الذهب مدعوماً بالعوامل التقليدية: انخفاض الفائدة، المخاطر المالية، التوترات الجيوسياسية، وعمليات الشراء المستمرة من البنوك المركزية. لكنه لا يشكل جزءاً من قائمة المعادن الحيوية ولا يخضع لمسار البند 232، وبالتالي يفتقر إلى محرك الرسوم الجمركية الذي يدعم المعادن البيضاء.
ورغم تحقيقه ارتفاعاً بنسبة 57% منذ بداية العام، فقد جاء أداؤه النسبي دون الفضة والبلاتين.
الخلاصة
لم تعد أجندة المعادن الحيوية الأمريكية بنداً هامشياً، بل أصبحت قوة محورية تعيد تشكيل سلاسل الإمداد العالمية. ويقف النحاس والفضة والبلاتين في مقدمة المستفيدين بفضل مزيج من شح الإمدادات، والدور الاستراتيجي، وتوقعات الرسوم الجمركية لعام 2026. ويتجلى ذلك بوضوح في أداء هذه المعادن الثلاثة، التي أصبحت عند تقاطع مباشر بين الأمن القومي وندرة الموارد، لتتقدم على بقية قطاع السلع الأساسية.







