بقلم كريم شريف، رئيس قطاع الإنشاءات ومنتجات البناء والعقارات والخدمات بين الشركات في أوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا، في شركة بين آند كومباني
يُسهم قطاع المباني والتشييد بشكل كبير في الانبعاثات العالمية من ثاني أكسيد الكربون والآثار الكربونية الناجمة عن استعمال المواد، حيث يشكّل نحو 40% لكل منهما. كما تشكّل الانبعاثات التشغيلية المتعلقة بالمباني معظم انبعاثات الناجمة عن هذا القطاع، ولا سيّما فيما يتعلق بالتدفئة والتبريد. حيث أن الانبعاثات الكربونية الناتجة مواد البناء تشكّل 28% من الانبعاثات الإجماليّة لقطاع صناعة البناء.
يُعد تحسين أداء قطاع البناء ضرورة حتمية للتقليل من الانبعاثات التي يسببها هذا القطاع ومن الآثار الكربونية لمواد البناء. ويشكل هذا الأمر تحديًا دوليًا وحاجة ماسّة، ولاسيّما في المناطق التي تشهد نموًا سريعًا في السكان وهجرة إلى المدن، وما ينتج عن ذلك من الطلب الكبير على إنشاء مبان جديدة.
وفي الوقت الذي ستتركّز فيه جهود خفض الانبعاثات بطبيعة الحال على التقنيات منخفضة الكربون، مثل: الفولاذ الأخضر (الصديق للبيئة) ومعالجة الخرسانة بواسطة ثاني أكسيد الكربون، من أجل تحقيق هدف صافي الانبعاثات الصفرية، يتعيّن على قطاع البناء أيضًا التقليل من الحاجة إلى استعمال المواد الخام البكر.
ولعل إحدى طرق تقليل حدة هذا الطلب هي ضمان الاستخدام الأمثل للمواد منتهية الصلاحية؛ أي المواد التي يمكن إعادة استخدامها أو إعادة تدويرها عند تجديد المباني أو إعادة هيكلتها، وبسبب قلة توفّر تلك المواد، يعمل القطاع أيضًا على تطوير مواد جديدة مبتكرة وتأمين الحصول على المواد المُعاد تدويرها من قطاعات أخرى.
إن المزيد من التحوّل نحو الاقتصاد الدائري سيحمل في طياته نقلة نوعية لهذا القطاع، ولصنّاع مواد البناء، ومعظم الشركات العاملة في القطاع تضع أهدافًا وتُنفذ برامج تجريبية لاستكشاف السبل التي تجعل منه أكثر دائرية.
لا يقتصر الضغط الذي يقع على عاتق الشركات الكبرى في القطاع من الجهات التنظيمية والعملاء فحسب؛ بل أيضًا من الشركات الجديدة التي تسعى لإثبات وجودها في قطاع المواد البديلة والخدمات الجديدة ونماذج الأعمال، على قادة هذه الشركات مراقبة تلك العوامل المزعزعة لوجودها بعناية شديدة، في حين تُنفذ الشركات الاستراتيجيات التكتيكية الخمس التالية لتحسين اقتصادها الدائري:
- التجديد والاستخدام لفترة طويلة: إن تحسين المباني السكنية والتجارية الحالية بهدف إطالة أعمارها وجعلها أكثر استدامة، من شأنه أن يعزز من دائرية القطاع بصورة كبيرة.
- الوزن الخفيف: يُمكن للابتكارات في مجال التصميم والمواد أن تقلل من وزن البناء بنسبة 20%، وبالتالي من انبعاثات الكربون الناتجة عنها بنسبة تصل إلى 15% بحلول عام 2040، ويمكن للتصميم المدروس بعناية أيضًا أن يقلل من الوزن عن طريق تحسين نوع المواد المستخدمة وكمياتها.
- المدخلات المتجددة: على الرغم من صغر حجم سوق مواد البناء المصنوعة باستخدام المدخلات المتجددة؛ إلا أنه ينمو بصورة سريعة.
- المدخلات القابلة لإعادة التدوير في قطاع الإنشاءات والقطاعات الأخرى: تساعد زيادة كمية المواد المعاد تدويرها، مع تحسين عمليات الاتساق في التجميع وإعادة التدوير، في مضاعفة حصة المواد المعاد تدويرها (إلى 28%) بحلول عام 2040.
- خدمات وتقنيات معالجة النفايات: تساعد الإدارة الأفضل للنفايات أثناء عمليات البناء والهدم، بما في ذلك تقنيات فصل المواد الأكثر تطورًا، في زيادة كمية المواد المقرر إعادة استخدامها أو إعادة تدويرها.
قيادة التحوّل نحو قطاع أكثر دائرية:
يتعيّن على الجهات الفاعلة في قطاع البناء، وتحديدًا شركات مواد البناء، اتّباع نهج استباقي لتحقيق أقصى استفادة من التحوّل إلى اقتصاد منخفض الكربون، حيث تشير خبرتنا في العمل مع شركات هذا القطاع إلى أن الشركات البارزة فيه تسترشد بثلاثة مبادئ تساعدها على قيادة عملية التحوّل، وهي:
- توقّع الأثر الكبير للمواد الدائرية: سيؤدي التحوّل إلى المواد القابلة لإعادة التدوير، مدفوعًا بالأنظمة والسياسات وطلب المستهلكين، إلى نقلة نوعية في قطاع البناء. وفي الوقت الحالي تسعى معظم شركات مواد البناء لتعزيز مكانتها، لتحقيق أقصى استفادة من الفرص من خلال الاستثمار في مواد أو تقنيات أو خدمات جديدة.
- استخدام الاقتصاد الدائري كنقطة بيع تجارية: بما أن المواد الصديقة للبيئة والقابلة لإعادة التدوير تساعد العملاء في تقليل الانبعاثات الكربونية التي يسببونها، فهي تحقق وفورات جديرة بأن يكون معظم العملاء مستعدين لدفع أموال مقابلها، لكن شركات المواد لم تُسعر منتجاتها بشكل ملائم للحصول على تلك الأموال. كما يُمكن لصنّاع المواد تحديد الأسعار والهوامش المناسبة، من خلال التركيز على فئات العملاء التي تقدّر منافع الاقتصاد الدائري، ومن خلال القياس الكمي للقيم المحقّقة للعملاء.
- الوصول الآمن بتكلفة تنافسية إلى المواد الدائرية: نظرًا لطول عمر المباني، فإن حجم المُدخلات اللازمة في البناء الجديد يتفوق كثيرًا على حجم المواد التي يمكن تخليصها من المباني في نهاية عمرها الإنتاجي. سترغب الجهات العاملة في البناء وصناعة مواد البناء في تأمين الوصول إلى المواد التي انتهى عمرها الافتراضي في أقرب وقت ممكن لتقليل التعرض للتضخم وندرة المواد.
في السابق كان قطاع الإنشاءات بطيئًا في تبني التقنيات والعمليات الجديدة التي تحقق أرباحًا في الإنتاجية، لكن ذلك تغير بسرعة: حيث تُعد تقنيات البناء والإنشاء اليوم ضمن أهم عوامل جذب رأس المال الاستثماري، ويتبنى القطاع منهجية التحوّل الرقمي بصورة سريعة، كما يحرز تقدمًا نحو تبني التقنيات الجديدة وابتكارات المنتجات لتعزيز الاستدامة ضمن سياق أوسع، وبالتالي تقليل الأثر البيئي للمباني بشكل عام. بعد سنوات عديدة، أظهر قطاع البناء أخيرًا أن بإمكانه أن يصبح أكثر ذكاء في استخدام التقنية وأكثر أمانًا على البيئة.