هناك فرق كبير بين الموسيقيين الفلسطينيين ونظرائهم من الموسيقيين في كافة بقاع العالم تقريباً.
حيث ان جعل الموسيقى ذات طابع سياسي بالنسبة للموسيقي العادي في أي مكان آخر يعتبر خياراً، غير أنه نادراً ما يتم اعتماده.
ولكن عندما تولد بروحٍ متمرّدة على الظلم وحرّة، لا يسعك إلاّ أن تدمج مشاعرك الثوريّة وأفكارك السياسيّة وقيمك في موسيقاك، بغض النظر عن ظروفك الشخصيّة.
لذلك نرى أن الخيار مختلف بالنسبة للموسيقيين الفلسطينيين، الذين نشأوا في وطنهم تحت الاحتلال، أو المنفيين منه، فهو: ما إذا كان عليهم أن يجعلوا موسيقاهم حياديّة أم لا.
كما ان الموسيقى الاحتجاجيّة هي مجرّد واحدة من بين العديد من الأنواع الموسيقيّة ضمن إطار الفن المقاوم في بقية أنحاء العالم، ولكن في عالم الموسيقى الفلسطينيّة، تكاد تكون الصبغة الاحتجاجيّة هي الأبرز.
وليس من المستغرب أنه منذ أن بدأ الجيش الإسرائيلي في استهداف المدنيين في غزة بحملة قصف جوي مكثفة، كان الموسيقيون والفنانون من أشد المنتقدين لهذه الهجمات.
على سبيل المثال، تضم مجموعة “موسيقيات وموسيقيون من أجل فلسطين” أكثر من 4000 فنان، اجتمعوا للمطالبة بوقف إطلاق النار في غزة.
وهي تشتمل على أسماء مشهورة مثلزاك دي لا روكا وتوم موريلو وبيكيني كيل وفرقة بلب (Pulp)ولوسي داكوسوموغواي (Mogwai) وكالي أوتشيس.
من بين الموسيقيين والفنانين البارزين الآخرين الذين أعربوا عن دعمهم للقضيّة الفلسطينيّة، كل من إيزابيلا خير حديد والمعروفة باسم بيلا حديد، وهي عارضة أزياء أميركية من أصل فلسطينيوالمغنية والممثلة والمنتجة الأميركية الشهيرةسيلينا غوميز، والمغنية وكاتبة أغاني البوب والممثلة الأميركية تايلور سويفت، والنجمة البريطانية الشهيرة دوا ليبا، والمغني البريطاني من أصل باكستاني زين مالك، وأيقونة الروك الفنان البريطاني الشهير روجر ووترز، الشريك المؤسّس لفرقة الروك الأسطوريّة بينك فلويد.
ومن خلال مقطع فيديو تم تداوله على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم، دعا المغني البريطاني روجر ووترز إلى “وقف إطلاق النار إلى الأبد”، مضيفاً أنه “يجب ألاّ يكون هناك المزيد من القتل في الأراضي المقدّسة، على الإطلاق، من قبل أي شخص كان”.
غير أن المثير للدهشة حقّاً أن العديد من هؤلاء الفنانين الذين تحدثوا علناً عن هذه القضية، بما في ذلك ووترز، اختاروا القيام بذلك على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث أشار البعض منهم إلى التحيّز الإعلامي السائد ضد أولئك الذين يتحدثون علناً لصالح فلسطين.
وكان قد أصدر العديد من الفنانين أغانٍ جديدة لدعم القضية الفلسطينيّة، غير أن الأغاني المفضّلة ما زالتتستهوي قاعدة جماهيريّة عريضة، حيث يشاركها الفلسطينيون في الوطن وكذلك في الشتات على نطاق واسع، ويستخدمونها كخلفيّة لآلاف مقاطع فيديو TikTok والبث المباشر، ويغنونها في المسيرات الاحتجاجيّة أيضاً. وتعتبر أغنية “أنا دمّي فلسطيني” أحد أكثر هذه الأغاني شعبية،وهي مفعمة بالحيويّة والروح الثوريّةوقد ساهمت في عام 2015 في وصول المبدع الغزّاوي محمد عسّاف إلى النجوميّة الإقليميّة بسرعة الصاروخ عندما فاز بالموسم الثاني من برنامج Arab Idol.
وقد حظيت هذه الأغنية النابضة بالأحاسيس الوطنيّة بشعبيّة كبيرة خلال الاحتجاجات الفلسطينيّة عام 2021 ضد حملات القمع الإسرائيليّة، حيث تمّت إزالتها من قبل منصات البث الرئيسيّة مثلApple وSpotify وTidal وAmazon وDeezer (المعروفة أيضاً باسم مقدمي الخدمات الرقمية أو DSPs) في وقت واحد، بناء على عريضة نظمتها كل من منظمةWe Believe in Israel (WBII) ، وهي جماعة بريطانية مؤيدة لإسرائيل، بالإضافةلمجلس النواب لليهود البريطانيين. وقد جمعت المنظمتان معاً ما يقرب من 4000 توقيع لإزالة الأغنية.
ولكن سرعان ما تمت إدانة هذه العريضة -لفرض رقابة على أغنية ذات محتوى سياسي- على نطاق واسع من قبل محبي الموسيقى في جميع أنحاء العالم، باعتبار هذا التحرّك غير عادل، وفي النهاية كان لا بد من إعادة الأغنية بسبب شعبيتها الهائلة. اليوم، يعزفها كل من الفلسطينيين وغير الفلسطينيين بروح ثوريّة، حيث حصدت إصدارات متعدّدة من الأغنية ملايين المشاهدات على موقع يوتيوب ووسائل التواصل الاجتماعي.
كما تمّت كتابة العديد من الأغاني الاحتجاجيّة تضامناً مع القضية الفلسطينيّة على مر السنين، بما في ذلك أغنية السبعينيات الشهيرة “Leve Palestina” (تحيا فلسطين) للفنان والملحن الفلسطيني جورج توتري الذي يُعتبر مثالاً على الفن المقاوم والفلسطيني، والذي وُلدت كلماته من رحم القضيّة الفلسطينيّة، حيث كتب بالعربيّة وغنّى بالسويديّة، وأسّس فرقة (KOFIA) كوفيةالتي نشأت في السويد وغنّت في العديد من الدول، ونقلت آلام الشعب المنكوب في أغانٍ خاطبت مشاعر الجماهير في مختلف أصقاع العالم بلغة تفهمها – لغة الفن المقاوم.
الأغنية الإيطالية “Rossa Palestina” (فلسطين الحمراء) للمجموعة الطلابيّة EdizioniMovimentoStudentesco، والتي كتبها سيرجيو إندريغو ولحنها لويس باكالوف عام 1970. ومؤخراً أغنية “The Ghost Who Weeps” لفرقة الموسيقى الجنوب إفريقية The Mavrix، بالشراكة مع فنانين أفارقة ضد الفصل العنصري.
وتعليقاً على ما تقدّم، صرّح سامر جرادات، المؤسّس والمدير التنفيذي لجفرا للإنتاج، الشركة الرائدة في مجال الموسيقى المستقلة والحاضنة للعديد من الفنانين والتي تأخذ من الضفة الغربيّة مقراً لها: “إن الموسيقى في فلسطين تجاوزت تاريخيّاً التعقيدات السياسية، ولعبت دوراً رئيسيّاً في الحفاظ على النسيج الوطني والهويّة الفلسطينية في مجملها. كما تعكس الأغاني والموسيقى الفلسطينية عامةً الحدود الحقيقية للمدن وأسماءها، وذلك بسبب طبيعتها غير الملموسة التي تتخطّى التغيرات المادية والتدخلات الحديثة.
علاوة على ذلك، فقد ساهم الموسيقيون العالميون في الدول الغربية وخارجها بالفعل في دعم القضية الفلسطينية وتسليط الضوء عليها من خلال موسيقاهم، ممّا أثر على الرأي العام الدولي، الذي يبدو أنه أصبحيعبّر عن الآراء الداعمةلفلسطين بشكل متزايد.
وأشارجرادات إلى أنالكثير من الأغاني التي تم إصدارها مؤخّراً تدعم شعب غزّة والقضيّة الفلسطينيّة بشكل صريح. غير أن العديد منها كانت عبارة عن جهود جماعية، مثل “راجعين”، وهو نشيد يجسّد روح المقاومة، والذي تم تسجيله من قبل مجموعة مكوّنة من 25 فناناً وفنّانة من جميع أنحاء غرب آسيا وشمال إفريقيا، جمعهم ناصر البشير، المنتج الأردني والعازف المتعدّد الآلات، حيث خُصّصت إيرادات الأغنية لصالح صندوق إغاثة أطفال فلسطين، الذي يقدّم خدمات طبية وإنسانية للأطفال والمرضى الفلسطينيين.
كما أصدر ثلاثة من أشهر الفنانين المصريين – بسمة بوسيل، ومحمد عدوية، وهاني شاكر – مقطوعات موسيقيّة فرديّة لدعم أهل غزة، بينما يقود الدكتور مدحت العدل، أحد النجوم البارزين في صناعة الموسيقى المصريّة، جهداً جماعيّاً لتقديم أوبريت موسيقي لدعم فلسطين، بالتعاون مع فنانين مختلفين تحت رعاية دار الأوبرا المصريّة. ويذكر أن أغنية “فلسطين لن تموت أبداً” لمغني الراب البريطاني الشهير لوكي والتي تضم المغنية وكاتبة الأغاني السوريّة المولد مي خليل، أحدثت ضجة في جميع أنحاء العالم، إلى جانب العشرات من الأغاني الجديدة الأخرى.كما لعبت شركات الموسيقى المستقلّة ومحطات الراديو دوراً نشطاً في نشر الموسيقى والفن المقاوم المستمر في فلسطين، بما في ذلك الجهود التي تبذلها أسماء مرموقة مثل راديو NTS (لندن / لوس أنجلوس)، ومنصّة بث الموسيقى العربيّة أنغامي.
وفي نظرة سريعة إلى الماضي، نرى أن أبرز نجوم الموسيقى العربيّة الحديثة أعربوا عن دعمهم للقضيّة الفلسطينيّة، وكانت أغانيهم الداعمة لفلسطين الحرّة من أكثر الأغاني الناجحة في المنطقة، وهذا ما يظهر مدى قرب القضيّة من قلوب العرب عامّة والنجوم خاصّة. ومن بين أفضل الأغاني المعروفة “يا فلسطينيّة” للموسيقي المصري الشهير الشيخ إمام، و”زهرة المدائن” للأسطورة اللبنانية السيّدة فيروز، و”حب على الطريقة الفلسطينيّة” لرائدات الموسيقى المستقلة الفلسطينيّة صابرين باند وكاميليا جبران، و”وين الملايين”للمطربة اللبنانيّة/الفلسطينيّة جوليا بطرس، “إن آن” لدبور وشاب جديد، و”كلن عندن دبابات” لمغنيّ الراب الفلسطينيين شادية منصور ودام.
النشيد الوطني الفلسطيني أو السَلام الوَطني الفلسطيني أَو نشيد فدائي من أناشيد الثورة الفلسطينيّة -اعتُمِد ليكون النشيد الوطني الرسمي للفلسطينيين بقرار من اللجنة التنفيذيّة لـمنظمة التحرير الفلسطينيّة سنة 1972-وهو يجسد الروح القتاليّة للشعب الفلسطيني، حيث تم تقديمه أيضاً من قبل العديد من الفنانين كموسيقى احتجاجيّة، بما في ذلكالمعزوفة الوجدانيّة من قبل تلامذةمعهد إدوارد سعيد الوطني للموسيقى الذي تأسّس عام 1993 في رام الله تحت مظلة جامعة بيرزيت، والذي سمي على اسم العالم والموسيقي الفلسطيني الشهير إدوارد سعيد.
ولطالما كانت صناعة الموسيقى الاحتجاجيّة أمراً مكلفاً للفنانين الذين يعيشون في فلسطين. وتعتبر حالة الموسيقي الموهوب رياض عوّاد إحدى الحالات المعروفة في هذا الإطار، إذ أصدر خلال الانتفاضة الأولى عام 1987 ألبوماً يضم أغاني احتجاجية شارك في كتابتها الشاعر الفلسطيني الشهير محمود درويش، داعياً الفلسطينيين إلى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. ولكن سرعان ما استولى الجيش الإسرائيلي على معظم نسخ الألبوم واعتقل عوّاد، ممّا دفع عشاق الموسيقى إلى سماع الألبوم ضمن دائرة موسيقى ما تحت الأرض السريّة. ومع ذلك، بعد وفات عوّاد ساهم الموسيقيون الفلسطينيون الشباب في إعادة أعماله إلى الساحة وسط قاعدة جماهير جديدة.
وقد علّق الفنّان والمغنّي الغزّاوي زُهدبالقول: “إن تاريخ الموسيقى الاحتجاجيّة الفلسطينيّة يعود إلى زمن طويل، وهو قديم قدم فلسطين المحتلّة نفسها”، مشيراً إلى أن بعض الأمثلة القديمة لهذه الموسيقى تشمل أغاني المتمردين مثل “من سجن عكا”، التي تم تسجيلها قبل النكبة، التطهير العرقي الذي قام به الصهاينة في فلسطين عام 1948 والذي سبق إنشاء الكيانالاسرائيلي. “اليوم، بينما يتعرّض شعب فلسطين لهجوم لم يسبق له مثيل، فإن نجمالفن المقاوم يسطع بقوّة، والدليل هو عشرات الأغاني الجديدة التي تم إصدارها منذ بدء عملياتالقصف على غزّة، والتي أوصلت صوت الفلسطينيين إلى الملايين “في جميع أنحاء العالم”، أضافزُهد، “وهذا شيء آخر يلهمنا لمواصلة نضالنا”.