شهدت الدورة الثانية من قمة “نكست إن” التي نظمتها شركة “أكسيونا للعيش والثقافة” خلال الأسبوع الماضي في مدريد، مشاركة أكثر من 300 متخصص في علم المتاحف والهندسة المعمارية والفنون، إلى جانب نخبة من الخبراء الدوليين لاستكشاف سبل تطوير المتاحف والمؤسسات الثقافية، وتمكينها من الاستجابة للتحولات المجتمعية، والتحول الرقمي، وأشكال التفاعل الجديدة مع الجمهور.

واستضاف منتدى هذا العام شخصيات بارزة من المملكة العربية السعودية في جلسة نقاشية متخصصة، حملت عنوان “الأمم المبدعة: إعادة تعريف البرمجة الثقافية في السعودية”، والتي سلطت الضوء على الحراك الثقافي غير المسبوق الذي تشهده المملكة، في ظل سعيها لبناء مؤسسات مستقبلية بعقلية مرنة.
وفي هذا الصدد، وصفت أروى العلي، ممثلة وزارة الثقافة ومؤسسة بينالي الدرعية، المملكة بأنها “واحة أمل” في المنطقة، يقودها جيل شاب نشأ في بيئة رقمية. وقالت: “يمثل 70٪ من السكان دون سن الثلاثين… تخيلوا حجم الإمكانيات الهائل الذي يمكن الحصول عليها حين تتكامل البنية التحتية والسياسات”، مشيرة إلى أن البيناليات في السعودية، مثل بينالي الفنون الإسلامية في جدة، تُعد منصات فعالة لمناقشة القضايا المعاصرة، والمساهمة في دمج التقاليد والابتكار في مساحات فريدة مثل صالة الحجاج.
من جانبها، أكدت نورة المعشوق، مديرة المتحف السعودي للفن المعاصر (ساموكا) في الرياض، على أهمية الحرية والمسؤولية في بناء المؤسسات من الصفر، وقالت: “كل شخص على هذه المنصة… لديه فرصة البدء من الصفر، وهو ما يعتبر ميزة، ولكنه في الوقت نفسه يمثل مسؤولية”، وفي مداخلتها سلطت المعشوق الضوء على مرونة المؤسسات التي لا تمتلك مجموعات مقتناه دائمة، مثل “ساموكا”، التي تتيح لها مساحة واسعة للتجريب والتعاون الوثيق مع الفنانين المقيمين في “حي جاكس الإبداعي”.
وبدوره أوضح حمد الحميدان من الهيئة الملكية لمحافظة العلا كيف يتم النظر إلى الموقع التاريخي على أنه “مفترق طرق ثقافي عالمي”، وقال: “العلا متحف حي مفتوح، تُسهم فيه كل مبادرة في التحول الثقافي الأشمل الذي تشهده المملكة العربية السعودية”، لافتاً إلى أن مشاريع مثل وادي الفن والمتحف الفن المعاصر تُعد محورية في هذه الرؤية الطموحة.
وقدّم شون جافاني من مركز “علمي”، التابع لمؤسسة مسك، شرحاً حول “علمي” كمركز ثقافي تفاعلي يركز على مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والفنون والرياضيات (STEAM)، ويعمل على تنشيط الحواس وتحفيز الفضول لدى شباب المملكة. وقال: “نرى أن مهمتنا هي أن نُظهر للأطفال أن هناك أشياء يمكنهم القيام بها، وأماكن يمكنهم الذهاب إليها، ومسارات لم يتخيلوها بعد”. وتمكنت هذه الأصوات مجتمعة من تقديم رؤية مشتركة تؤكد أن مستقبل السعودية الثقافي يتشكّل في الزمن الحقيقي عبر مبادرات طموحة ومتجذّرة في المجتمع، وتمنح الأولوية للشمول والتجريب والخيال الجريء.
كما استضافت القمة شخصيات بارزة من مختلف أنحاء العالم، من بينهم المهندس المعماري ديفيد تشيبرفيلد الحائز على جائزة بريتزكر لعام 2023، وغلين د. لوري، مدير متحف الفن الحديث (MoMA)، وميغيل فالومير، مدير متحف برادو، حيث تركزت مداخلاتهم حول إعادة تعريف علم المتاحف المعاصر، وتوسيع نطاق الوصول الرقمي، وتنويع الجمهور، إلا أن جلسة السعودية برزت كمثال واضح على كيف يمكن للمنظومات الثقافية أن تنشأ برشاقة ووعي بالغَين.
وأشار غلين د. لوري إلى أن “مفهوم الفن المعاصر لا يزال قيد التشكّل”، داعياً المتاحف إلى كسر الحواجز بين العالمين الواقعي والافتراضي. وقد انسجمت هذه الفكرة مع ما قالته أروى العلي حول ضرورة استخدام البيناليات كصيغة معاصرة لإعادة صياغة المساحات المقدسة والمدنية في السعودية كمواقع لحوار عالمي.
خارطة طريق نحو الاستدامة والابتكار
من جهة أخرى، شهد الحدث أيضاً إطلاق “كتاب المتاحف الشامل” (The Ultimate Museum Book)، وهو دليل أعدّته شركة “أكسيونا للعيش والثقافة” استناداً إلى أبحاث أجريت في أكثر من 150 متحفاً حول العالم، ويستعرض الكتاب أفضل الممارسات لإنشاء مؤسسات ثقافية مستدامة وشاملة وجاهزة للمستقبل – وهي مبادئ تنسجم مع مبادرات “رؤية السعودية 2030”. وكما لخّصت أروى العلي: “الأمر لا يقتصر على بناء المؤسسات فحسب، وإنما يتعلق بحماية مجتمعنا الإبداعي، واتخاذ قرارات جريئة، وإنشاء منصات تتيح للفنانين من التعبير عن آرائهم، حيث لم يكن ذلك ممكناً من قبل”.
ومع تحوّل الثقافة إلى عنصر محوري في تشكيل السرديات الوطنية على مستوى المنطقة، وجّهت قمة “نكست إن 2025” رسالة واضحة مفادها أن مستقبل المتاحف لا يكمن فقط في الحفاظ على التراث، بل في قدرتها على المشاركة والتحفيز والريادة.