أدى الإغلاق الحكومي الأميركي الذي دخل أسبوعه الثالث إلى حرمان أسواق السلع الأساسية من أحد أهم مصادرهم وأدواتهم وهو تقرير التزامات المتداولين الذي تصدره هيئة تداول السلع الآجلة (CFTC) أسبوعياً.
في سوق يعتمد بدرجة كبيرة على الشفافية، خلّف غياب هذه البيانات فراغاً غير مسبوق. بات آخر تقرير متاح بتاريخ 23 سبتمبر قديماً جداً في ظل التحركات الحادة التي شهدتها أسواق الطاقة والمعادن والزراعة منذ ذلك الحين.
آخر مرة حدث فيها أمر مشابه كانت خلال الإغلاق الحكومي الذي استمر 35 يوماً بين ديسمبر 2018 ويناير 2019، حين لم يتم استدراك التأخير في إصدار البيانات حتى 8 مارس. أظهرت تلك الفترة كيف يمكن للحسابات المضاربة أن تعمل “خارج الرادار” لأسابيع.
وفي الوقت الحالي، يراقب المتعاملون التغيرات في الفائدة المفتوحة في أسواق العقود الآجلة الفردية، وتدفقات صناديق المؤشرات (ETF)، وشكل منحنى العقود الآجلة، وحركات المخزونات الظاهرة كبدائل مؤقتة للبيانات الرسمية.
الطاقة: ضغوط بيعية تحت وطأة فائض الإمدادات
قطاع الطاقة كان الأكثر تضرراً مؤخراً، إذ تراجع كل من خام غرب تكساس الوسيط (WTI) وبرنت بنحو 9% منذ أواخر سبتمبر مع تصاعد المخاوف من تخمة المعروض واتساع هيكل السوق في اتجاه الكونتانغو.
كما ارتفعت كميات النفط المخزن في الناقلات البحرية إلى مستويات شوهدت آخر مرة أثناء جائحة 2020، في إشارة إلى تضخم المخزونات وضيق طاقات التخزين البرية.
وبدون بيانات التزامات المتداولين، يعتمد المتداولون على تحديثات بورصة إنتركونتننتال الأسبوعية لبرنت وغازويل لاستنتاج الاتجاهات. وتُظهر البيانات الأخيرة أن المراكز الطويلة الصافية للمضاربين في برنت تراجعت للأسبوع الثالث على التوالي إلى نحو 110 آلاف عقد – الأدنى في خمسة أشهر – بينما ارتفعت المراكز القصيرة الإجمالية إلى أعلى مستوى في 13 شهراً بنحو 158 ألف عقد.
يشير تعمّق الكونتانغو إلى أن المتعاملين لا يرون انفراجاً قريباً، في ظل ضعف هوامش التكرير وارتفاع إنتاج أوبك+ وتراجع الطلب الموسمي.
أما عقود الغازويل، المؤشر الجيد على الطلب على الديزل، فقد شهدت تراجعاً في صافي المراكز الطويلة من أعلى مستوى في 3.5 سنوات إلى 57.1 ألف عقد خلال أسبوعين فقط.
ورغم ذلك، لا تزال السوق بعيدة عن مستويات تسمح بتنفيذ صفقات تجارة المناقلة المربحة (شراء النفط وتخزينه وبيعه لاحقاً بسعر أعلى)، ما يشير إلى احتمال تراجع الأسعار الفورية أكثر لتعكس فائض المعروض.
ويركز المتعاملون الآن على مراقبة توسّع فروقات الأسعار بين العقود، كإشارة لاستمرار الضغوط البيعية، أو عودة المشترين عند مستويات دعم فنية رئيسية قرب 60 دولار لبرنت و55 دولار لغرب تكساس.
المعادن النفيسة: تأثير المضاربات غير واضح
بينما تنزف الطاقة، تتألق المعادن. فقد ارتفع الذهب بنحو 12% والفضة بنسبة 13% منذ آخر تقرير التزامات المتداولين، وسجلا مستويات قياسية جديدة قبل أن يتراجعا قليلاً بفعل جني الأرباح.
غياب بيانات المراكز يأتي في وقت حساس، مع احتمال تراكم مراكز شراء مضاربة كبيرة في كلا المعدنين، مما يجعلهما أكثر عرضة لتصحيح حاد في حال انعكاس الأسعار أو ارتفاع التقلبات.
تدفقات صناديق المؤشرات المدعومة بالمعادن الثمينة توفر لمحة جزئية عن المعنويات.
فقد استقبلت صناديق الذهب أكثر من 2 مليون أونصة خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، بينما أضافت صناديق الفضة حوالي 7 ملايين أونصة. وبينما تشير هذه التدفقات إلى أن حسابات الأموال المُدارة واصلت تعزيز تعرضها للمخاطر أيضًا، فإن انخفاض إجمالي المراكز المفتوحة في عقود الذهب الآجلة في بورصة كومكس يشير إلى عكس ذلك، وربما يكون مدفوعًا بارتفاع التقلبات.
أما الفضة، فقد شهدت ارتفاعاً بنسبة %7في الفتح الإجمالي، بدعم من الشراء الفني بعد اختراق مستوى 50 دولار الأسبوع الماضي.
تحرك الفضة المبالغ فيه، المدعوم بالطلب الآسيوي ومحافظ التجزئة، يعكس ضعف سيولتها مقارنة بالذهب — إذ لا تتجاوز تداولاتها نحو تسع سيولة الذهب — ما يجعل حركتها السعرية أكثر تضخماً في الاتجاهين.
كلما طال انقطاع بيانات التزامات المتداولين، زادت الضبابية حول مدى “ازدحام” هذه المراكز المضاربة. وعند عودة البيانات، سيراقب المتعاملون أي علامات على التمادي في الشراء يمكن أن تثير تصحيحاً حاداً.
حتى ذلك الحين، يظل الذهب مدعوماً بعوامل كلية مثل تراجع العوائد الحقيقية، والتوترات الجيوسياسية، ومخاوف تآكل قيمة العملات، بينما تواصل الفضة سلوكها كـ”ذهب مُضخّم”.
المعادن الصناعية: ارتفاع النحاس مدفوع بتعطل الإمدادات
ارتفع النحاس بنحو 7% منذ آخر بيانات متاحة، مدعوماً بانقطاعات الإمداد في بعض أكبر المناجم في العالم، ما حفّز عمليات شراء زخم مضاربي رغم وفرة المخزونات، خصوصاً في الولايات المتحدة.
ويجد السوق دعماً من الاضطرابات في مناجم إندونيسيا وتشيلي، إلى جانب التفاؤل الحذر بشأن اتفاق تجاري محتمل بين الولايات المتحدة والصين.
في غياب بيانات التزامات المتداولين، يراقب المتداولون ارتفاع الفتح الإجمالي بنسبة 11.5% منذ 23 سبتمبر، إلى جانب بيانات بورصة لندن، ومستويات المخزون المراقب، وشكل منحنى العقود الآجلة كمؤشرات بديلة للمراكز.
الزراعة: تباين حاد في الأداء
تُظهر العقود الزراعية تبايناً واسعاً:
ارتفعت فول الصويا بدعم من الآمال بإحياء المحادثات التجارية بين واشنطن وبكين — وهي أنباء طال انتظارها من قبل المزارعين الأميركيين الذين يواجهون صعوبات لوجستية بعد موسم حصاد ضخم أدى إلى تخمة في المخازن في الغرب الأوسط.
وفي المقابل، تراجع الكاكاو بنسبة 16% بعد انحسار المخاوف بشأن الإمدادات في غرب إفريقيا، بينما قفز البنّ بنسبة 17% بفعل توقعات نقص المعروض والجدل حول الرسوم المفروضة على الواردات من البرازيل — المورد الرئيس لأصناف أرابيكا المتداولة في نيويورك.
مع محدودية بيانات هيئة تداول السلع الآجلة ، يعتمد المتعاملون على تحديثات بورصة إنتركونتننتال التي تظهر زيادة بنسبة 30% في المراكز الطويلة الصافية لعقود روبوستا إلى 11.4 ألف عقد، وتراجعاً بنسبة الثلث في عقود السكر الأبيض إلى 25.7 ألف عقد، وتحول الكاكاو إلى مركز بيع صافٍ بـ 13 ألف عقد — وهو الأكبر منذ ثلاث سنوات.
التحرك من دون بوصلة
حوّل غياب الشفافية في بيانات التزامات المتداولين تحليل مراكز المتداولين إلى مهمة استقصائية معقدة.
يلجأ المتعاملون إلى بدائل مثل تغيّر الفتح الإجمالي، وتدفقات صناديق المؤشرات، وحركة أسواق الخيارات، وشكل منحنى العقود، وحركة المخزونات المعلنة لقياس اتجاهات السوق.
الأسواق العميقة مثل النفط والذهب قادرة على التأقلم بشكل أفضل، بينما تبقى الأسواق الزراعية الأميركية أكثر عرضة للشائعات والانفعالات في غياب الأرقام الرسمية التي تصدر عادة عن وزارة الزراعة الأميركية (USDA) عبر تقريرها الشهري “تقديرات العرض والطلب الزراعي العالمي” (WASDE).
إذا استمر الإغلاق الحالي، قد تتفاقم ظاهرة التمركز المضاربي، مما يرفع خطر حدوث انعكاسات حادة عند عودة البيانات. وكما أظهرت تجربة 2019، فإن استئناف إصدار تقارير التزامات المتداولين عادة ما يثير “سباق تصحيح” سريع لإعادة تموضع المراكز بما يتماشى مع الواقع.