طرح كبار مسؤولي البنوك المركزية حول العالم رسالة صارمة وموحّدة بشأن الحاجة إلى كبح جماح التضخم، معلنين في “جاكسون هول” أن قاعدة التضخم واسعة وسيستمر كذلك، وسيتطلب الأمر منهم اتخاذ إجراءات قوية.
تحدث رؤساء كلٍ من بنك إنجلترا والبنك الوطني السويسري وبنك اليابان وبنك كوريا والعديد من صانعي السياسة في البنك المركزي الأوروبي أمس السبت خلال الخلوة السنوية لمجلس الاحتياطي الفيدرالي في مدينة كانساس بحديقة “غراند تيتون” الوطنية في وايومنغ.
تأتي تصريحاتهم عقب تصريحات رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول يوم الجمعة الماضي، والتي استهدفت إلزام البنك المركزي الأميركي على نحو لا لبس فيه برفع أسعار الفائدة حتى يتباطأ التضخم بشكل ملموس.
صانعو السياسة في أوروبا والولايات المتحدة، الذين يكافحون التضخم الأشد وطأة منذ عقود، يرفعون أسعار الفائدة بشكل صارم ورفضوا الإشارات إلى أنهم سيتراجعون إذا تعثرت اقتصاداتهم، بينما تظل ضغوط الأسعار مرتفعة للغاية.
كان ملتقى “جاكسون هول”، وهو أول اجتماع لهم حضورياً منذ تفشي الوباء في عام 2020، بمثابة منصة لإقناع المستثمرين بأنهم سيتابعون الأمر، حتى لو تسبّب في إلحاق الألم.
تصرف حازم
حثّت إيزابيل شنابل، عضوة المجلس التنفيذي في البنك المركزي الأوروبي، والمتحدثة الأكثر توقعاً لهذا اليوم، زملاءها على التصرف بحزم لإبطاء الزيادات في الأسعار التي تقترب في أوروبا من 10%، وفي الولايات المتحدة تتجاوز 8%.
قالت شنابل: “إن كلاً من احتمالية وتكلفة أن يترسّخ التضخم المتزايد الحالي في التوقعات مرتفع بشكل غير مريح، وفي هذه البيئة، تحتاج البنوك المركزية إلى التصرف بقوة. وهي بحاجة لأن تواجه بتصميم مخاطر أن يبدأ الناس في الشك في الاستقرار طويل الأجل لعملاتنا الورقية”.
كما أقرّت بوجود خطر حدوث ركود، لكنها أخبرت زملاءها من صانعي السياسة أنه “حتى لو دخلنا في حالة ركود، فلا خيار أمامنا سوى الاستمرار في مسار تسوية الأمور حتى تعود إلى نصابها، وهو ما يتناغم مع تصريحات باول في اليوم السابق لذلك، والذي أشار خلالها إلى أن الحدّ من التضخم من المرجح أن يتطلب فترة مستدامة من النمو دون الاتجاه.
يناقش مسؤولو البنك المركزي الأوروبي حجم الزيادة في سعر الفائدة الذي قد يكون مناسباً في اجتماعهم في سبتمبر المقبل، حيث يجادل البعض بأن الزيادة بمقدار 75 نقطة أساس يجب أن تكون على الأقل جزءاً من النقاش. ورفع مجلس المحافظين أسعار الفائدة في يوليو الماضي بمقدار نصف نقطة مئوية.
من جانبه، قال فرانسوا فيليروي دي غالاو، عضو مجلس محافظي البنك المركزي الأوروبي، متحدثًا في الجلسة نفسها مع شنابل، إن صانعي السياسة عليهم أن يلتزموا الحزم بشأن معالجة التضخم القياسي لتجنب الاضطرار إلى تحركات أسعار الفائدة “بشكل قاسٍ بلا داعٍ” في وقت لاحق.
عوامل هيكلية
كذلك، دار نقاش حول المدة التي قد يستمر فيها التضخم المرتفع. وقال توماس جوردان، رئيس البنك الوطني السويسري إن العوامل الهيكلية في الاقتصاد قد تساهم في استمرار التضخم المرتفع لسنوات قادمة، وأنه سيصبح أكثر اتساعاً.
حذر من أن “هناك دلائل على أن التضخم ينتشر بشكل متزايد إلى السلع والخدمات التي لا تتأثر بشكل مباشر بالوباء أو الحرب في أوكرانيا”. فيما تناول آخرون نقطة مماثلة يوم الجمعة.
من جهتها، قالت غيتا غوبيناث، النائب الأول للمدير العام في صندوق النقد الدولي، إن التضخم في الولايات المتحدة سيستمر لمدة عام أو عامين آخرين على الأقل.
إلى ذلك، حذر أوغستين كارستنز، رئيس بنك التسويات الدولية، من أن الاقتصاد العالمي يواجه مخاطر ضعف مستمر إذا لم يتعاون صانعو السياسة النقدية مع الحكومات من اجل معالجة مشكلات الإمداد التي من المرجّح أن تستمر في دفع التضخم إلى الارتفاع.
مطبّات هوائية
قال كارستنز: “لا يمكن للبنوك المركزية أن تأمل في تهدئة جميع المطبات الاقتصادية، بل يتعين عليها بدلاً من ذلك التركيز أولاً وقبل كل شيء على إبقاء التضخم منخفضاً ومستقراً. السياسة النقدية بحاجة إلى مواجهة التحدي العاجل المتمثل في التعامل مع تهديد التضخم الحالي.”
كما أعرب محافظو البنوك المركزية عن الحاجة إلى التواصل بشكل أكثر وضوحاً وسهولة. فقد ظهر شعور واضح في خطاب باول المكتوب في خمس صفحات، وهو أقصر بكثير مما كان عليه في السنوات السابقة. وقال يواكيم ناغل، عضو مجلس إدارة البنك المركزي الأوروبي، إن صانعي السياسة يُعقّدون الرسالة بشكل مفرط في بعض الأحيان.
وأضاف رئيس البنك المركزي الألماني “بوندزبانك”، أمس السبت: “القصة واضحة جداً. فالتضخم مرتفع للغاية، وبالتالي فإن الإجابة في مثل هذه الحالة واضحة أيضاً. هذا ما يتعين على البنوك المركزية فعله في مثل هذا الموقف. علينا رفع أسعار الفائدة.”
وقال، خلال مقابلة: “ربما يكون الأمر معقداً بشأن التوقيت الذي سنتوقف فيه، أو متى يحين الوقت الذي يجب أن نتوقف فيه. وعليّ أن أقول، أنا لا أعرف حقاً. فمن السابق لأوانه التفكير، بشكل أو بآخر، بشأن الوجهة النهائية للفائدة”.
اليابان أفضل حالاً
من جانبهم، شارك مسؤولو البنوك المركزية من آسيا تصريحاتهم بشأن الأوضاع في منطقتهم.
قال ري تشانغ يونغ، محافظ بنك كوريا الجنوبية، الذي يكافح التضخم أيضاً وأشرف على زيادة سعر الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس الأسبوع الماضي، إن هناك فرصة كبيرة لعودة كوريا والاقتصادات الناشئة الآسيوية الأخرى إلى بيئة التراجع في التضخم وعودة النمو الذي هيمن على فترة ما قبل الجائحة.
من ناحية أخرى، شرح هاروهيكو كورودا محافظ بنك اليابان، بالتفصيل وضعاً اقتصاديا في بلاده يختلف تماماً عما تعيشه أوروبا والولايات المتحدة.
قال كورودا: “نعيش وضعاُ أشبه بمعجزة إلى حد ما، إذ نشهد حالياً تضخماً بـ2.4%. لكن ذلك يرجع كله تقريباً إلى الارتفاع العالمي في أسعار السلع الأساسية والطاقة والغذاء.”
وأوضح أن التضخم سينخفض في بلاده في وقت لاحق من العام الجاري والعام المقبل، لذلك ليس لدينا خيار سوى التيسير النقدي المستمر حتى ترتفع الأجور والأسعار بطريقة مستقرة ومستدامة.