منذ نحو خمسة عشر عاما، وتحديدا بعيد الأزمة العالمية 2008 وأنا أكتب بين الفترة والأخرى مقالات حول أهمية الاندماجات المصرفية بكونها أحد الدروس التي عززت الأزمة من ضرورة الاستفادة منها، حيث تركز حديثنا آنذاك على عدد من نقاط الضعف التي سجلتها البنوك التي شهدت انهيارات أو خسائر فادحة مثل ضعف رؤوس الأموال وشحة السيولة والمديونية المفرطة كأسباب مباشرة لدراسة موضوع الاندماجات.
كما أن على مدار السنوات الماضية تعززت البيئة الدافعة للاندماجات من خلال توالي صدور تشريعات بازل 3 التي فرضت على البنوك العديد من المتطلبات المتعلقة بملاءة رأس المال والسيولة وإدارة المخاطر التشغيلية وصولاً إلى تطبيق المعيار المحاسبي الدولي (9)، وهي جميعها متطلبات تفرض تقوية رؤوس أموال البنوك سواء من خلال الإصدارات الرأسمالية الجديدة أو الاندماجات. إلى جانب ذلك تسارعت خطوات التحول التكنولوجي والرقمي وبات يمثل عنوان عريض لمستقبل الخدمات المصرفية حول العالم، وهو بدوره يتطلب استثمارات ضخمة للغاية في الأنظمة والبشر والتقنيات والابتكارات وغيرها، الأمر الذي يدفع البنوك الصغيرة وحتى الكبيرة للتفكير في موضوع الاندماجات.
ونعود لهذا الموضوع اليوم بمناسبة الحديث عن توجه بنك البحرين الوطني وبنك البحرين والكويت للاندماج بينهما، وكذلك بعد إن شهدنا عدد من عمليات الاندماج والاستحواذ في السوق المحلي خلال السنوات الأخيرة، مما يؤكد على حيوية السوق المصرفي البحريني وبلوغه مرحلة النضوج، ومن ثم البحث عن إعادة تموضع لضمان موصلة النمو والتوسع في ظل سوق تنافسي مفتوح محليا وخليجيا وعربيا وعالميا، مع العلم بأن البحرين هي من أوائل الدول التي شهدت علميات اندماج مصرفي، وجاءت إجراءات تعزيز البيئة التنظيمية والمالية للاندماج والتي اتخذها مصرف البحرين المركزي كمحفز لهذه العمليات.
وفي ظل عمليات الإصلاح الاقتصادي والمالي الواسعة التي تشهدها المملكة، يمكن القول إن عمليات الاندماج والاستحواذ باتت تمثل محركا للنمو الاقتصادي سواء على صعيد البنوك المندمجة أو على الصعيد الاقتصادي ككل. فجميعنا يدرك إن الإصلاحات الراهنة تقوم على توسيع دور القطاع الخاص وتشجيع استقطاب الاستثمارات الأجنبية وتحفيز نمو قطاعات وأنشطة اقتصادية جديدة في مجالات الابتكار وريادة الأعمال والمؤسسات الصغيرة. جميع هذه التوجهات الاقتصادية تفرض قيام كيانات مالية وتجارية وصناعية ضخمة تقود عمليات التحول هذه في مختلف القطاعات.
كما أن المصارف الخليجية دخلت مرحلة الاستحواذات والاندماجات بقوة خلال السنوات الماضية وذلك بغرض تعزيز قدرتها التنافسية في الأسواق العالمية وزيادة الانفاق في التحول التكنولوجي وخفض التكلفة وتقليل المخاطر المالية والتجارية، والوصول إلى أسواق جديدة. كما تعكس هذه العمليات الحجم الحقيقي للاقتصاديات الخليجية التي أصبحت بعض شركاتها بأحجام عالمية. ولذلك يتوقع أن تشهد دول المنطقة مزيد من صفقات الدمج والاستحواذ لتشمل قطاعات أخرى مثل الصناعة والزراعة والخدمات عامة.
وتحفز عمليات الاندماج والاستحواذ المصرفية في ظل هذه التحولات عوامل كثيرة على سبيل المثال خلق تكامل في نقاط القوة والتخلص من نقاط الضعف في الكيانات المصرفية المندمجة، وتعزيز قدرتها على تمويل مشاريع التنمية الكبيرة والتوسع في الخدمات المصرفية الرقمية، كذلك قدرتها على التوسع في تمويل المشاريع الخضراء والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة. أما بخصوص الموظفين فهناك باستمرار تعليمات من الجهات الحكومية والرقابية والتي تشدد على استمرار هؤلاء الموظفين في وظائفهم وعدم تقليص عددهم.
وعلاوة على العوامل المذكورة أعلاه، تبرز أهمية عوامل أخرى تقف وراء اندماج البنوك مثل عوامل الربحية، والسوق، والمنافسة، والتكنولوجيا. ففي حين يظل القطاع المصرفي الخليجي في حالة صحية بصورة عامة إلا أن دون شك هناك ضغوطات على هامش الربحية تفرض على البنوك التحول إلى كيانات كبيرة قادرة على المنافسة. كما أن وجود أكثر من 100 بنك تجاري في دول الخليج تلبي احتياجات سكان يبلغ عددهم 55 مليون نسمة بالمنطقة يعتبر عدد كبير للغاية بالمقارنة مع حجم السكان. أما عنصر التكنولوجيا، فكما ذكرنا سابقا، تواجه البنوك في الوقت الحالي العديد من الاضطرابات الرقمية التي تفرض عليها توظيف استثمارات ضخمة قد لا تستطيع توفيرها إلا من خلال الاندماج.
**********************