أن يعود الفنان لمسرح صنع جزء من شهرته ولجمهور شجّعه منذ البدايات، لحظة لا يمكن تجاوزها… لحظة منفلتة من الزمن وتتجاوز المعنى اختزلتها أصالة نصري في جملة “حالة يطول شرحها، وقد لا تفيها الكلمات حقها”…
ثلاثون عاما مضت على أوّل لقاء بين أصالة نصري وجمهور قرطاج (1994) ثلاثة عقود ترسّخت خلالها مسيرة الفنانة الدمشقيّة وصنعت لها مكانا بارزا بين النجوم العرب وكانت كلّما عادت لقرطاج يستقبلها جمهوره بنفس الحفاوة والدفء.
بعد غياب عشر سنوات عادت أصالة للمسرح الروماني مساء 17 أوت لتختتم فعاليات الدورة الثامنة والخمسين لمهرجان قرطاج الدولي، كل شيء كان يوحي بسهرة غير عاديّة حيث اصطفت الجماهير أمام البوابات الخارجيّة منذ الساعة الثانية ظهرا حملوا مظلاّت تقيهم حرارة الشمس وتسلّحوا بالصبر والانتظار.
في تمام العاشرة أطلّت ابنة الفيحاء على جمهور فاق التوقعات فاضت به مدراج المسرح وجوانبه مسبوقة بعاصفة من الهتافات والتصفيق وقد ارتفعت في سماء قرطاج آلاف الهواتف الجوّالة أُضيئت لتعوّض نجوما غابت بفعل سُحب عبرت ولم تمطر إلاّ رذاذا… محاطة بفرقة موسيقيّة مكوّنة من ستة وثلاثين عازفا يقودهم المايسترو مصطفى حلمي انطلق الصوت قويّا صادحا كنبع هادر فيّاض “أكثر من الي أنا بحلم بيه” بدأ الحفل بنسق قويّ يبوح بأسرار حبّ متبادل بين هذه الفنانة والجمهور الذي لم تُتعبه ساعات الانتظار الطويلة بل كان في تمام الجاهزيّة ليرافق نجمة سهرته ويغنّي معها كلّ الأغنيات…حتى وإن تواصل الحفل إلى حدود الساعة الواحدة.
وقوفها على المسرح الروماني حرّك فيها الكثير من الذكريات والحنين للبدايات، وفي كلمة دافئة عبّرت عن امتنانها لهذا الركح العريق بمشاعر ممزوجة بعطر الفل والياسمين قبل أن تستأنف الغناء “بعدك عني” تلتها “بنت أكابر” التي كانت مسبوقة بموال أبرز خامة صوتها والمساحات التي يتحرّك في مجالها، صوت تُطوّعه بين الرقة والعذوبة حينا والقوة حينا تناغما مع اللحن والمعنى… وكأن الكلمات الدافئة التي حيّت بها تونس وجمهور قرطاج لم تترجم عمق المشاعر فأهدتهما أغنية خاصّة كتب كلماتها الشاعر خالد الوغلاني حملت عنوان “تونس الخضراء” ولأن الوقت لم يكن كافيا لتلحينها فقد غنّتها على إيقاع أغنية “مانجا”، وكما غنّت “تونس يا غناية مكتوبة على جبيني” غنّت فلسطين عربية، القبلة الأولى والقضيّة العربية” ورفرف العلم التونسي والفلسطيني معا على الشاشة العملاقة في صدارة الركح وأكّدت “لسّة حنغني للقضية كتير”.
حوالي ثلاث ساعات لم يتعب صوت أصالة ولم يتعب جمهورها ردّد معها حتّى الأغاني الصعبة وتفاجأت بهذا التفاعل خاصة في الأغاني التي اعتبرتها صعبة مثل “يا مجنون”، تفاعل لم يقتصر على نجمة الحفل وجمهورها بل تعدّاه إلى عناصر الفرقة الموسيقية المصاحبة واتضح ذلك جليّا من خلال الكاميرا الموصولة بالشاشة الكبيرة التي عكست مدى بهجتهم وانخراطهم في إيقاع ونسق الحفل.
غنّت ابنة دمشق “إنسان” و”سامحتك” و”صندوق” و”يمر وما يسلّم” و”قد الحروف” و”يسمحولي الكل” و”ما بقاش أنا” و”آسفة” وأغنيات أخرى مراوحة بين الجديد والقديم الذي ترسّخ في الأذهان ولم يطوه النسيان، وبين اللهجة السورية والمصرية والخليجية وكذلك التونسيّة، أغان حملت كمّا من المشاعر الإنسانية بين الحب والرقة والغضب والغيرة والكبرياء…
“أنا أغنّي لكلّ الأماكن التي تتحرّك فيها المشاعر” بهذه الجملة اختصرت خياراتها الفنية والمسيرة التي رسمتها لنفسها منذ البداية وقد عبّرت عن ذلك خلال اللقاء الصحفي الذي جمعها بممثلي وسائل الإعلام عقب السهرة، لقاء كان أشبه بجلسة حميمية فاضت فيها مشاعر الحب والامتنان بين الطرفين، فكانت تلقائية في فرحها بنجاح الحفل وبكمّ المشاعر التي أغدقها عليها الجمهور.
رغم وقوفها للغناء ما يقارب الثلاث ساعات إلا أن أصالة نصري أهدت الصحفيين في خاتمة اللقاء مقاطع من أغنية “شكرا” التي غنّتها دون مصاحبة موسيقية مبرهنة في ذلك مرّة أخرى على قوّة هذا الصوت وعذوبته وهو يشدو في الساعة الثانية بعد منتصف الليل “شكرا ع الكلمة الحلوة اللي بتتقال فتغيّر مودنا/ شكرا ع النيّة الصافية ولناس بوعودها وافية”
اختتام الدورة الثامنة والخمسين لمهرجان قرطاج الدولي كان لائقا بقيمة هذه التظاهرة وعراقتها من خلال هذا الحفل الجماهيري الكبير الذي كتب سطرا جديدا في تاريخ المهرجان